ترجمة عالم القراءات : الإمام الشَّاطِبي
صفة العلماء الربانييِّن، أنَّهم قناديل النور، وقادة الأنام، وملح الأرض، والمنار الذي يرجع إليه الباغي، والنجوم التي لا يضلُّ معها الساري.
ولعل السرَّ في هذا المآل الحسن، والمقام السامي، يكمن في عقد مبايعة تمَّ بين طلبة العلم، وبين الله عزَّ وجلَّ، والتجارة الرفيعة، مع الله شرف كبير. قال سفيان بن عيينة: „من طلب العلمَ، فقد بايعَ اللهَ عز وجل“. وقال صديق حسن خان، (المتوفى: 1307هـ)، بين يدي تنويره قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا﴾ [النمل: 15]: „وفي الآية دليل على شرف العلم، وارتفاع محله، وتقدم حملته وأهله، وأن نعمة العلم من أجلِّ النعم التي ينعم الله بها على عباده، وأن من أوتيه فقد أوتي فضلاً على كثير من العباد؛ ومنح شرفاً جليلاً، وما سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورثة الأنبياء إلا لمداناتهم لهم في الشرف والمنزلة، لأنهم القوام بما بعثوا من أجله؛ وفيها أنه يلزمهم لهذه النعمة الفاضلة، أن يحمدوا الله على ما أوتوه، وأن يعتقد العالم أنه إن فضِّل على كثير، فقد فضل عليه مثلهم“ .
أما صاحب الترجمة، فهو القاسم بن فِيرُّه، أبو محمد الشاطبي: اِمام القراء، كان ضريراً. ولد بشاطبة، وهي مدينة كبيرة ذات قلعة حصينة بشرق الأندلس.
قرأ القرآن وتعلّم النحو واللغة؛ وتفننّ فى قراءة القرآن والقراءات وهو حدَث! وقرأ الناس عليه في بلده، واستفادوا منه قبل سن التكهّل. أخذ القراءة عن الشيخين الإمامين أبي الحسن علي بن هذيل، وأبي عبد الله محمد بن أبي العاص النفري. وكان عالماً بالحديث والتفسير واللغة. رحل إلى المشرق للحجّ، واستوطن مصر، وتصدّر في جامع عمرو بن العاص للإقراء والإفادة، وتصدر للإقراء بالمدرسة الفاضلية من القاهرة، بعد أن نقله الفاضل عبد الرحيم بن علي البيساني إلى مدرسته هذه، التي أنشأها بالمعزّية القاهرة، وأفرد له فيها حجرة لطيفة مرخّمة على يسار الداخل من الباب؛ وكان مقيماً بها للإقراء والإفادة. وأفرد لأهله داراً أخرى خارج المدرسة، ولم يزل على ذلك إلى حين وفاته رحمه الله. قال ابن خلكان: كان إذا قرئ عليه صحيح البخاري ومسلم والموطأ، تُصحَّح النسخ من حفظه. وقال الداوودي: كان إماماً علامة ذكيًا، كثير الفنون، منقطع القرين، رأسًا في القراءات والتفسير، حافظًا للحديث بصيراً بالعربية واللغة، واسع العلم. ذكره ابن الصلاح في طبقات الشافعية.
كما كان موصوفًا بالزهد والعبادة والانقطاع، وكان يجتنب فضول الكلام، لاينطق في سائر أوقاته إلا بما تدعو إليه الضرورة، ولا يجلس للإقراء إلا على طهارة، وفي هيئة حسنة وتخشُّع واستكانة.
كان مبرّزاً في علم النحو والعربية. عالماً بعلم الرؤيا، حسن المقاصد، مخلصاً فيها، يقول ويفعل، ونظم القصيدة الطويلة في القراءات، التي اشتهرت بــ: „حرز الأماني ووجه التهاني“، والتي تعرف بالشاطبية. أودعها كتاب „التيسير“ فى القراءات تسهيلاً لحفظها؛ وعليها أكثر القراء إلى اليوم، وقد شرحت في مجلدين، شرحها بعض تلاميذه. قال رحمه الله: „لا يقرأ أحد قصيدتي هذه إلا ونفعه الله عزّ وجلّ بها، لأنّي نظمتها لله تعالى“. وله أيضاً „عقيلة أتراب الفضائل في رسم القراءات“.
قال الداوودي: قد سارت الركبان بهما وحفظهما خلق لايحصون، وخضع لهما فحول الشعراء وكبار البلغاء وحذَّاق القراء، ولقد أبدع وأوجز، وسهَّل الصعب.
كما له أيضاً قصيدة دالية في خمسمائة بيت من حفظه، أحاط علمًا بكتاب „التمهيد“ لــ“ابن عبد البر“. وله أشعار مأثورة عنه في ظاءات القرآن، وفي مواضع الصّرف، وفي نقط المصحف وخطّه، وفي أنواع من المواعظ رحمه الله.
حكى الإمام أبو شامة، أن أبا الحسن السخاوي أخبره، أن سبب انتقال الشاطبي من شاطبة إلى مصر، أنه أريد على أن يولى الخطابة بشاطبة، فاحتج بأنه قد وجب عليه الحج، وأنه عازم عليه، وتركها ولم يعد إليها تورعاً، مما كانوا يلزمون به الخطباء من ذكره الحكام على المنابر بأوصاف لم يرها سائغة شرعاً! وصبر على فقر شديد، وسمع بالثغر من السلفي، ثم قدم القاهرة، فطلبه القاضي الفاضل للإقراء بمدرسته، فأجاب بعد شروط اشترطها، وقد زار بيت المقدس قبل موته بثلاثة أعوام، وصام به شهر رمضان. قال السخاوي: أقطع بأنه كان مكاشفاً – أي ملهَماً – وأنه سأل الله كفاف حاله ماكان أحد يعلم أيَّ شيء هو.
قال الأبار في „تاريخه“: تصدر للإقراء بمصر، فعظُم شأنه، وبعُد صيته، وانتهت إليه الرياسة في الإقراء. ثم قال: وقفت على نسخة من إجازته، وحدَّث فيها بالقراءات عن ابن اللايه، عن أبي عبد الله بن سعيد.
وافته المنية في يوم الأحد بعد صلاة العصر، وهو اليوم الثامن من بعد العشرين من جمادى الآخرة، سنة تسعين وخمسمائة، ودفن يوم الإثنين في المقبرة المعروفة بــ“سارية“ على جانب الخندق في تربة „البيساني“، وصلّى عليه الشيخ أبو إسحاق المعروف بــ“العراقي“ إمام جامع مصر يومئذ.
عليه رحمات الله تتلى، وجزاه عن الأمَّة خير الجزاء، وأجزل له في المثوبة.
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المجلس الأوروبي للقرآن الكريم.