عظمة القرآن في القرآن-6- الأمثال البليغة
د. محمد محمود حوا
للأمثال دور كبير في الإقناع والتفهيم وتوصيل المراد من الكلام، ولذلك ضرب الله الكثير من الأمثال في القرآن الكريم، والتي هي أبلغ الأمثال لما حوته من المعاني الحسنة، والدلائل العميقة، المتضمنة للحكمة، والأدلة على الحقائق الكبرى في هذا الوجود.
ولما استنكر الكفار هذه الأمثال بين الله تعالى غاية الأمثال وهي إيصال الهدى للناس الذين يتطلعون للوصول للحقيقة، فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَـذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} (البقرة: 26).
وهذا „خبرٌ منه جلّ ذكره أنه لا يستحي أن يضرب في الحقّ من الأمثال صغيرِها وكبيرِها، ابتلاءً بذلك عبادَه واختبارًا منه لهم، ليميز به أهل الإيمان والتصديق به من أهل الضلال والكفر به، إضلالا منه به لقوم، وهدايةً منه به لآخرين“[1].
وضرب الأمثال من أفضل الأساليب في توصيل المعاني وإقامة الحجة وتبليغ المراد، ولذلك يقول الإمام الماوردي رحمه اللَّه: „وللأمثال من الكلام موقع في الأسماع، وتأثير في القلوب، لا يكاد الكلام المرسل يبلغ مبلغها، ولا يؤثر تأثيرها لأن المعاني بها لائحة، والشواهد بها واضحة، والنفوس بها وامقة[2]، والقلوب بها واثقة، والعقول لها موافقة، فلذلك ضرب اللَّه الأمثال في كتابه العزيز، وجعلها من دلائل رسله، وأوضح بها الحجة على خلقه، لأنها في العقول معقولة، وفي القلوب مقبولة“[3].
وقد وردت في القرآن الكريم أمثال كثيرة تشتمل على ما يحتاجه الناس لبيان الحق، قَال الله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} (الكهف: 54)، وقال: {وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (إبراهيم: 25)، وقال: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الحشر: 21)[4].
أنواع الأمثال في القرآن:
تتنوع الأمثال في القرآن إلى ثلاثة أنواع، هي[5]:
- الأمثال الكامنة: وهي تشبه الأمثال السائرة التي يرددها الناس للدلالة على أمر معين واختصار الكلام، مثل: خير الأمور أوساطها، ومثله في القرآن: {لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} (البقرة:68)، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} (الفرقان:67).
- الأمثال الصريحة في التشبيه: وفيها تشبيه وقياس شيء على شيء آخر، مثل قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ} (الجمعة:5).
- الأمثال التربوية المرسلة: ويراد منها ترسيخ المعاني التربوية والإيمانية في نفس السامع، مثل قوله تعالى: {لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللهِ كَاشِفَةٌ} (النجم:58) يضرب لتعاظم الشدائد وضرورة الالتجاء إلى الله لكشفها. ومثل قوله تعالى: {الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ} (يوسف:51) يقال عند ظهور الحق واضحاً بعد أن كان هناك من يحاول إخفاء الحقيقة.
الغاية من الأمثال القرآنية:
وغاية المثل القرآني: إصلاح النفوس، وصقل الضمائر، وتهذيب الأخلاق، وتقويم المسالك، وتصحيح العقائد، وتنوير البصائر، والهداية إلى ما فيه خير الفرد، وصلاح الجماعة، والتنبيه إلى المساوئ لتجتنب، وإلى المحاسن لتقبل عليها النفوس الطيبة، والقلوب الزكية[6].
قال السعدي: „في ضرب الأمثال في القرآن يستفاد منه أمور:
التذكير، والوعظ، والحث، والزجر، والاعتبار، والتقرير، وتقريب المراد للعقل، وتصويره في صورة المحسوس، بحيث يكون نسبته للعقل، كنسبة المحسوس إلى الحس..
وتأتي أمثال القرآن مشتملة على بيان تفاوت الأجر، وعلى المدح والذم، وعلى الثواب، وعلى تفخيم الأمر أو تحقيره، وعلى تحقيق أمر، وإبطال أمر“[7].
وإذا استعرضنا الأمثال القرآنية نجد أنها ضُربت لأغراض متعددة، وهذا يقتضي منا أن نتدبر هذه الأمثال ونعقلها لكي نستفيد منها في الدعوة إلى الله تعالى والتربية والتوجيه.
ومن أهم الأغراض التي ضربت لها الأمثال القرآنية[8]:
- بيان الممثَّل له وتقريب صورته إلى ذهن المخاطبين.
- إقامة الدليل القاطع والبرهان الساطع على القضية المرادة.
- الإقناع بحسن الأمر الممثَّل له، بإبراز محاسنه ومزاياه أو الإقناع بقبحه وفساده، بإبراز مساويه وخزاياه.
- الدلالة على كثير من الحكم والفوائد العلمية.
- التربية بإبراز النماذج الخيِّرة الصالحة، وبيان أعمالهم وأحوالهم وما آل إليه مصيرهم في الدنيا، وما سيصيرون إليه في الآخرة، لتكون قدوة يُرغَّب ويُحثُّ على الاقتداء بهم، وإبراز النماذج الشريرة الضالة، وتجلية صفاتهم وأعمالهم وكيف كانت عاقبتهم، ليُحذر منهم ومن طريقهم.
ولقد حرص السلف الصالح على فهم أمثال القرآن حتى قال بعض السلف: „إذا سمعت المثل في القرآن فلم أفهمه بكيت على نفسي؛ لأن الله تعالى يقول: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} (العنكبوت:43)“[9].
- تفسير الطبري (1/ 401). ↑
- وَمِقَ: أحب، وامقة: مُحِبة. انظر لسان العرب: ومق. ↑
- أدب الدنيا والدين، لأبي الحسن علي بن محمد الماوردي، ت/ مصطفى السقا، ص (275). ↑
- الأمثال القرآنية القياسية، عبد الله الجربوع (1 / 3). ↑
- ينظر: مباحث في علوم القرآن، د مناع القطان (1 / 293). ↑
- أمثال ونماذج بشرية من القرآن الكريم، أحمد بن محمد طاحون (1/ 104). ↑
- تفسير السعدي (1 / 34). ↑
- الأمثال القرآنية القياسية ، عبد الله الجربوع (1/176). ↑
-
تفسير ابن كثير (1 / 208). ↑