القرآن الكريم منهج حياة

القرآن الكريم، هو كتاب هذه الأمة، وروحها وباعثها وقوامها وكيانها وحارسها وراعيها وبيانها وترجمانها وعنوان سؤددها. وهو دستورها، ومنهجها، وزاد الطريق لمستقبلها وسعادتها!

ولا بدَّ لكل متأمِّل في الأسرار، التي بثَّت بين حروف ومفردات القرآن المجيد، أن يلمس وفاءه لحاجات البشر في مختلف أزمانهم. ثم إن تلوين الفهوم لآياته، وما تحمله من وجوه، وكذا تنويع الاستنباطات من دلالاته، وخاصَّة في الآيات التي تتحدَّث عن الإنسان والكون والحياة. كل ذلك يساهم في الاقتباس من أنوار مشاعله، نثارات الضياء والبراهين الساطعات، على استحالته أن يكون كلام بشر.

جعل الله سبحانه وتعالى كتابه معجزة رسوله العظمى، والحجَّة الدائمة على الخلق، ونبراسًا للدعاة إلى يوم الدين، يستمدون من نبعه الثرِّ الهدايات، ويقتبسون من نوره مشاعل الحضارة، ويجدون في ثناياه البراهين السواطع، كلما تراكمت غبار الشبهات، وفي إرشاداته برد اليقين، كلما حاكت الوساوس في الصدور!

لم يشهد التاريخ البشري كتابًا أهَّل أمة لقيادة البشرية، كما أهَّل القرآن الكريم أمة محمَّد صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل أحد أن جيلًا ربانيًا تولى الهيمنة المشرِّفة على مقادير الأمم والشعوب، فعدل فيها بالقسطاس المستقيم، كجيل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم! كل ذلك كان في فترة زمنية، لا تتجاوز ثلث قرن من الزمان، وهي مدة قصيرة جدًا في عمر الأمم والشعوب.

لقد تخرَّج من مدرسة النبوة، جيلٌ فريدٌ في صفاته وتطلعاته وعزيمته وبذله وتضحياته، وقد فجَّر الإسلام هذه الطاقات الكامنة في تلك النفوس وأزاح عنها الدثار والغشاوة، وفتح أمامها مجالات العطاء والإنتاج، فكان منهم قادة الجيوش، وساسة الأمم، وعباقرة العلماء، ونوابغ القضاة، وأفذاذ الزهَّاد والعباد. وما ذاك إلا لتوافر أسباب النبوغ والعطاء.

قال أحد التابعين: „مثَل القرآن، كالمطر حلو طيب مبارك ينزل من السماء، فيزيد النبات الحلو حلاوة، والمرَّ مرارة“.

ومن يعِش مع آيات القرآن، يدرك تماماً أن المفردة منها، لا تمنَح مدلولها الحقيقيِّ إلا للقلب المتفتح لها، وللفكر الذي يتهيأ للاغتراف من معينها. ويعلم أيضاً أن هذا القرآن لا يفصِح عن مراميه، ولا يكشِف عن مراده، ولا يعطي دروسه البالغات، إلا لأهل الإيمان، ممن أشرِبت قلوبهم بحب تلاوته، واستضاءت أفئدتهم بتوجيهاته وأسراره! فما أشدها من لوعة، وأعظمها من خسارة، على من أفنى أوقاته في مطالعة الكتب والصحف، ثم يفارق الدنيا وما فهم رسائل القرآن، ولا فقه أسرارها ودقائقها!.

إن الفرد المسلم، يقرأ النصَّ القرآنيَّ مئات المرات، ثم يتأمله من جديد؛ فإذا هو جديد يوحي إليه بما لم يوح من قبل قطُّ، ويجيب على تساؤل المتخبط الحائر، ويفتي في المسألة المتشابكة وقد ترامت أطرافها! ويكشف الطريق الذي ادلهمت فيه الظلمات، ويؤوب بالقلب إلى اليقين الجازم، الذي لا يمكن طمس معالمه، في الواقع الذي يواجهه. وإلى الاطمئنان العميق، الذي يفيض بالسكينة على قلبه، في وسط من زحام صروف الدهر ونوائب الزمن! وليس ذلك لغير القرآن في سالف الدهر ولا في حديثه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: „ما رأيت شيئاً يغذِّي العقل والروح، ويحفظ الجسم، ويضمن السعادة، أكثر من إدامة النظر في كتاب الله تعالى!“.

وقال تلميذه ابن قيِّم الجوزية رحمه الله: „إذا أردت الانتفاع بالقرآن، فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، وألق سمعك، واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه، منه إليه؛ فإنه خطاب منه لك، على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق: 37]. وذلك أن تمام التأثير، لمَّا كان موقوفاً على مؤثر مقتض، ومحل قابل، وشرط لحصول الأثر، وانتفاء المانع الذي يمنع منه؛ تضمنت الآية بيان ذلك كله بأوجز لفظ وأبينه وأدله على المراد؛ فقوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى﴾ إشارة إلى ما تقدم من أول السورة إلى ههنا، وهذا هو المؤثر. وقوله: ﴿لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ فهذا هو المحل القابل؛ والمراد به القلب الحيُّ الذي يعقل عن الله، كما قال تعالى: ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ * لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا﴾ [يس: 69، 70]، أي: حيَّ القلب. وقوله تعالى: ﴿أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ﴾ أي: وجه السمع، وأصغى حاسة سمعه إلى ما يقال له، وهذا شرط التأثر بالكلام. وقوله تعالى: ﴿وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ أي: شاهد القلب والفهم، ليس بغافلٍ ولا ساهٍ، وهو إشارة إلى المانع من حصول التأثير وهو سهو القلب وغيابه عن تعقل ما يقال له والنظر فيه وتأمله. فإذا حصل المؤثر، وهو القرآن. والمحل القابل، وهو القلب الحيُّ. ووجد الشرط، وهو الإصغاء. وانتفى المانع، وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب وانصرافه عنه إلى شيء آخر، حصل الأثر، وهو الانتفاع والتذكر.

ثم يفتح له باب الحياء من الله، وهو أول شواهد المعرفة، وهو نور يقع في القلب، يريه ذلك النور أنه واقف بين يدي ربه عزَّ وجلَّ. فيستحيي منه في خلواته، وجلواته. ويرزق عند ذلك دوام المراقبة للرقيب، ودوام التطلع إلى حضرة العلي الأعلى، حتى كأنه يراه ويشاهده فوق سماواته، مستوياً على عرشه، ناظراً إلى خلقه، سامعاً لأصواتهم، مشاهداً لبواطنهم. فإذا استولى عليه هذا الشاهد غطى عليه كثيراً من الهموم بالدنيا وما فيها؛ فهو في وجود والناس في وجود آخر. هو في وجود بين يدي ربه ووليه، ناظراً إليه بقلبه، والناس في حجاب عالم الشهادة في الدنيا. فهو يراهم وهم لا يرونه، ولا يرون منه إلا ما يناسب عالمَهَم ووجودهم. ثم يفتح له باب الشعور بمشهد القيُّومية، فيرى سائر التقلبات الكونية وتصاريف الوجود بيده سبحانه وحده؛ فيشهده مالك الضرِّ والنفع، والخلق والرزق، والإحياء والإماتة؛ فيتخذه وحده وكيلاً، ويرضى به ربَّاً ومدبراً وكافياً، وعند ذلك إذا وقع نظره على شيء من المخلوقات، دلَّه على خالقه وبارئه، وصفات كماله ونعوت جلاله. فلا يحجبه خلقه عنه سبحانه؛ بل يناديه كل من المخلوقات بلسان حاله: اسمع شهادتي لمن أحسن كل شيء خلقه؛ فأنا صنع الله الذي أتقن كل شيء“.

قال الحسن بن علي، رضي الله عنهما: „إن من كان قبلكم، رأوا القرآن رسائل من ربهم. فكانوا يتدبرونها بالليل، ويتفقدونها في النهار!“.

إنَّ كنوز القرآن العظيم، لا تقف عند حدِّ الاعتقاد الخالص وتوحيد الخالق جلَّ جلالُه، بل من جملة تعاليمه، ما يترتَّب على التَّوحيد من تهذيب السُّلوك، وتوجيه العقل، وتطبيق قواعد العدل، وتصحيح المعاملات. ومن هنا فقد احتوى القرآن المجيد، على أنواعٍ من الأعمال، التي كُلِّفت بها الفئة المسلمة، كالعبادات الصرفة، والمالية، والاجتماعية، والبدنية. واعتُبِرت هذه العبادات، بعد قيمة الإيمان بالله تعالى، أساس الإسلام. قال الله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: 89].

وختاماً نسأل المولى سبحانه، أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور أبصارنا، إنه سبحانه سميع قريب. وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين.

المجلس الأوروبي للقرآن الكريم