عظمة القرآن في القرآن1- الصراط المستقيم

د. محمد محمود حوا

يقول الله سبحانه وتعالى واصفا علمه المطلق: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} (طه : 110)

ولما كان القرآن كلام الله تعالى فإن البشر لا يحيطون بمعاني كلامه ولا بفضائله ولا بأوصافه، ولذلك كان أفضل طريق لمعرفة طرف من ذلك هو أن نرجع لكتاب الله عزوجل ونتعرف على القرآن الكريم من خلال آيات القرآن

وفي هذه السلسلة من المقالات أستعرض عظمة القرآن الكريم من خلال وصف القرآن ذاته، وذلك من خلال استعراض آيات القرآن الكريم

ولنبدأ بسورة الفاتحة، وهي أم القرآن والسبع المثاني، يقول الله تعالى: {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} (الفاتحة: 6)

لقد تعددت عبارات المفسرين في تفسير {الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ}، فمنهم من قال: هو الإسلام، ومنهم من قال: هو القرآن، ومنهم من قال غير ذلك من المعاني التي ترجع في مجملها إلى دين الله وطاعته والاستقامة على شرعه وفق ما جاء في القرآن الكريم والسنة المطهرة

قال شيخ المفسرين الإمام الطبري: (أَجْمَعَتِ الحجة مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ جَمِيعًا عَلَى أَنَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ هُوَ الطَّرِيقُ الْوَاضِحُ الَّذِي لاَ اعْوِجَاجَ فِيهِ). ثم نقل عن عبد الله بن مسعود قوله: “ الصِّراطُ المستقيم“ كتابُ الله [1]

وكذلك روى الْحَارِثِ الأَعْوَرِ عن علي رضي الله عنه حيث قال: مَرَرْتُ فِي الْمَسْجِدِ فَإِذَا النَّاسُ يَخُوضُونَ فِي الأَحَادِيثِ فَدَخَلْتُ عَلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَلاَ تَرَى أَنَّ النَّاسَ قَدْ خَاضُوا فِي الأَحَادِيثِ. قَالَ: وَقَدْ فَعَلُوهَا؟ قُلْتُ: نَعَمْ

قَالَ أَمَا إِنِّي قَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «أَلاَ إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ». فَقُلْتُ مَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ نَبَأُ مَا كَانَ قَبْلَكُمْ وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ وَمَنِ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الَّذِي لاَ تَزِيغُ بِهِ الأَهْوَاءُ وَلاَ تَلْتَبِسُ بِهِ الأَلْسِنَةُ وَلاَ يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ وَلاَ يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ وَلاَ تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ هُوَ الَّذِي لَمْ تَنْتَهِ الْجِنُّ إِذْ سَمِعَتْهُ حَتَّى قَالُوا (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِىَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ». خُذْهَا إِلَيْكَ يَا أَعْوَرُ([2])

يقول السعدي: ( فالهداية إلى الصراط: لزوم دين الإسلام، وترك ما سواه من الأديان، والهداية في الصراط، تشمل الهداية لجميع التفاصيل الدينية علما وعملا)[3]. قلت: وهذه التفاصيل مصدرها الأول هو كتاب الله تعالى، قال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (الأنعام: 161)

وقال في تفسير قوله تعالى { عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } (معتدل، موصل إلى اللّه وإلى دار كرامته، وذلك الصراط المستقيم، مشتمل على أعمال، وهي الأعمال الصالحة، المصلحة للقلب والبدن، والدنيا والآخرة، والأخلاق الفاضلة، المزكية للنفس، المطهرة للقلب، المُنَمِّية للأجر، … وهذا الصراط المستقيم { تَنزيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ } فهو الذي أنزل به كتابه، وأنزله طريقا لعباده، موصلا لهم إليه، فحماه بعزته عن التغيير والتبديل، ورحم به عباده رحمة اتصلت بهم، حتى أوصلتهم إلى دار رحمته، ولهذا ختم الآية بهذين الاسمين الكريمين: العزيز. الرحيم)[4]

والقارئ المتدبر لكتاب الله يلحظ الصلة بين قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ} وما بدأت به سورة البقرة بقوله تعالى: {الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} فبعد أن علمنا الله تعالى أن نطلب الهداية منه إلى الصراط المستقيم عرفنا على أن هذا القرآن هو محل الهدى[5]

وإلى مقال قادم نستعرض فيه قوله تعالى: {الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}

 

[1]   جامع البيان (تفسير الطبري) – (1 / 173)، وهذا الخبر ، رواه الحاكم في المستدرك „3023 „هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه “ ، ووافقه الذهبي

[2]   سنن الترمذي (1906) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاَّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَإِسْنَادُهُ مَجْهُولٌ. وَفِى الْحَارِثِ مَقَالٌ. قلت ومعناه صحيح، قال ابن كثير في كتاب فضائل القرآن (ص 45): “ وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وقد وهم بعضهم في رفعه، وهو كلام حسن صحيح [أي في معناه].

[3]  تفسير السعدي (1 / 39).

[4]  تفسير السعدي (1 / 692)

[5] الأساس في التفسير – (1 / 50)