صور من تعامل السلف الصالح مع القرآن الكريم
لم يكن منهج السلف الصالح، من أبناء القرون الثلاثة الأولى، والمشهود لها بالخيرية، رضي الله عنهم، في تلقيهم رسائل القرآن الكريم، للترف الفكري وللعلم البارد، بل كان منهجهم في استقبال وتلقي هذه الرسائل، هو التطبيق والتنفيذ والتسليم المطلق، ترجمة لإسلامهم في سلوكهم،فكان الواحد منهم قرآناً يتحرَّك على الأرض! عن الحسن البصري، قال: „إن ناساَ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يشربون الخمر، وكان عامة عيشهم منها، فلما نزل تحريمها، قال ناس: حرمت علينا الخمر، وقد كان فلان وفلان وفلان يشربونها وهم أصحاب الجنة، فماتوا، فقد كانوا يشربونها إنما أنزل تحريمها، ونزلت هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ﴾ [المائدة: 90] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ [المائدة: 91]“، فقال القوم: فقد انتهينا يا ربنا“. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: „يرحم الله نساء المهاجرات الأُول لما أنزل الله: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنّ عَلَىَ جُيُوبِهِنّ﴾ [النور: 31]، شققن مُرُوطَهُنَّ فاختمرن بها“.
ولما رأى ابن عمر رضي الله عنهما، إعراض الناس عن الأحكام، وعدم العمل بالقرآن رغم حفظهم له، علَّلَ ذلك بأن الأحكام سبقت عند هؤلاء الإيمان، فلم يعملوا بالأحكام حقَّ العمل! عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: „لقد عشت برهة من دهري، وإن أحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد فيتعلم حلالها وحرامها، وما ينبغي أن يقف عنده منها، كما تُعلِّمون أنتم القرآن؛ ثم أجد رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان؛ فيقرأ ما بين فاتحة الكتاب إلى خاتمته، ما يدري ما آمره ولا زاجره، وما ينبغي أن يقف عنده منه وينثره نثر الدَّقْل (رديء التمر)!“. من هذا النص نعلم ضرورة فهم المسلم لعقيدته، وطريق ذلك العلم والخشية، حتى يؤتى المسلم الإيمان أولاً، ثم يشرع بالتعرُّف على الأحكام للتعايش والتفاعل معها، وفقاً لشمولية الإسلام، الذي يبدأ من فراش الزوجية، وينتهي بالعلاقات الدولية.
وهكذا رأينا أن أسلافنا العظماء رضوان الله عليهم، لم يكونوا يقرؤون القرآن بقصد الزاد الثقافي وبغية تشكيل رصيد معرفي، إنما كان آحادهم يتلقاه لاستقبال أمر الله في خاصة شأنه، ويتلقى خطاب التكليف ليعمل به فور سماعه، تماماً كما يتلقى الجندي في الميدان، الأمر اليومي ليعمل به فور تلقيه! ليكون منهج حياة، ونبراساً يضيء لهم الطريق اللاحب.
وإن من مقدمات التفاعل مع رسائل القرآن، تدبر الآيات وإحضار القلب عند سماع القرآن أو تلاوته، حضور من يخاطبه القرآن، وتصور عظمة من تكلم بهذا القرآن، وعظمة مخلوقاته في الآفاق وفي النفس الدالة على عظمته سبحانه وجلاله وعلى أسمائه سبحانه وصفاته. وكان المربي الأول صلوات الله وسلامه عليه، مثالاً يُحتَذى. عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه، قال: „أتيت الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء!“. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: „لما اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه قيل له في الصلاة، قال: „مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس“، فقالت عائشة رضي الله عنها: إن أبا بكر رجل رقيق، إذا قرأ القرآن غلبه البكاء. فقال: „مروه فليصلِّ“، وفي رواية عنها رضي الله عنها، قالت: „إن أبا بكر إذا قام مقامك، لم يسمع الناس من البكاء“. كما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يمر بالآية في ورده بالليل فتخنقه فيبقى في البيت أياماً ويُعَادُ ويحسبونه مريضاً، وكان في وجهه رضي الله عنه خطَّان أسودان من البكاء.
عن ابن أبي أبزى قال: „صليت خلف عمر رضي الله عنه، فقرأ سورة يوسف حتى ﴿وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ﴾ [يوسف: 84]، فوقع عليه البكاء فركع“.
وكان ابن عمر رضي الله عنه، إذا قرأ: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾ [الحديد: 16]، بكى حتى يغلبه البكاء!
وعن المسيب بن رافع، عن عبد الله بن مسعود، قال: „ينبغي لحامل القرآن أن يُعرَفَ بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس فرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخلطون، وبخشوعه إذا الناس يختالون. وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكياً محزوناً حليماً حكيماً سكيتاً. ولا ينبغي لحامل القرآن أن يكون جافياً ولا غافلاً ولا سخاباً ولا صياحاً ولا حديداً“. وعن عبَّاد بن حمزة، رحمه الله تعالى، قال: „دخلت على أسماء رضي الله عنها، وهي تقرأ ﴿فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ﴾ [الطور: 27]؛ فوقفتْ عندها فجعلت تعيدها وتدعو، فطال عليَّ ذلك فذهبت إلى السوق فقضيت حاجتي، ثم رجعت وهي تعيدها وتدعو“. وقال ابن أبي مليكة: „سافرت مع ابن عباس رضي الله عنهما، من مكَّة إلى المدينة، فكان يقوم نصف الليل فيقرأ القرآن حرفاً حرفاً، ثم يبكي حتى تسمع له نشيجاً“. هذا حال الصحابة، وأما التابعون، فكانوا أيضاً على مسافة قريبة من تفاعل الصحابة الذين شرفوا بمخالطتهم. قالت أمُّ ولد الحسن البصري: „رأيته فتح المصحف، فرأيت عينيه تسيلان وشفتاه لا تتحركان“. ويقول إسحاق بن إبراهيم الطبري عن الفضيل بن عياض: „كانت قراءته حزينة شهية بطيئة مترسلة؛ كأنه يخاطب إنساناً، وكان إذا مرَّ بآية فيها ذكر الجنة يردِّد فيها ويسأل!“. وقال أحمد بن أبي الحواري: „إني لأقرأ القرآن، وأنظر في آية فيحير عقلي بها، وأعجب من حفَّاظ القرآن؛ كيف يهنيهم النوم، ويسعهم أن يشتغلوا بشيء من الدنيا وهم يتلون كلام الله!“. وقال أحمد الدورقي: „حدثنا يحيى بن الفضل الأنبسي، سمعت بعض من يذكر عن محمد بن المنكدر، أنه بينما هو ذات ليلة قائم يصلي إذ استبكى، فكثر بكاؤه حتى فزع له أهله، وسألوه فاستعجم عليهم، وتمادى في البكاء؛ فأرسلوا إلى أبي حازم فجاء إليه فقال: ما الذي أبكاك؟ قال: مرت بي آية قال: ما هي؟ قال: ﴿وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾ [الزمر: 47]؛ فبكى أبو حازم معه فاشتد بكاؤهما. وفي رواية أخرى: فبكى أبو حازم أيضاً معه وأشتد بكاؤهم، فقال بعض أهله لأبي حازم: جئنا بك لتفرِّج عنه فزدته، فأخبرهم ما الذي أبكاهما.
وردَّد الحسن البصري ليلة ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ [النحل: 18] حتى أصبح، فقيل له في ذلك. فقال: إن فيها معتبَراً؛ ما نرفع طرفاً ولا نردُّه إلا وقع على نعمة، وما لا نعلمه من نعم الله أكثر“.
ومن المعلوم أن المسلم، يحتاج إلى أن يعيش بين الخوف والرجاء، أما الرجاء فرجاء الكرامة والفوز والنجاة، وطريق هذه النعم معروف، دليله معادلة شرطية في القرآن في قوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ [البقرة: 40]. وأما الخوف فمن فزع يومئذ، وأقل هذا الفزع ما صوره صالح المري، لما قرأ قارئ: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ﴾ [غافر:18]، فقطع صالح عليه القراءة، وقال: كيف لظالم حميم أو شفيع، والمطالِب له رب العالمين؟! إنك والله لو رأيت الظالمين وأهل المعاصي، يساقون في السلاسل والأنكال إلى الجحيم، حفاة عراة مسودة وجوههم، مزرقة عيونهم، ذائبة أجسادهم، ينادون: يا ويلنا يا ثبورنا، ماذا نزل بنا؟ ماذا حلَّ بنا؟ أين يُذهَبُ بنا؟ ماذا يُرَادُ منا؟ والملائكة تسوقهم بمقامع النيران، فمرَّة يجرون على وجوههم ويسحبون عليها منكبين، ومرَّة يقادون إليها مقرنين، من بين باكٍ دماً بعد انقطاع الدموع، ومن بين صارخ حائر القلب مبهوت. إنك والله لو رأيتهم على ذلك لرأيت منظراً لا يقوم له بصرك، ولا يثبت له قلبك، ولا تستقر لفظاعة هوله على قرار قدمك. ثم نَحِبَ وصاح: يا سوء منظراه! يا سوء منقلباه! وبكى وأبكى الناس. فقام فتى فقال: أكلُّ هذا في يوم القيامة يا أبا بشر؟ قال: نعم والله يا ابن أخي، وما هو أكثر. فصاح الفتى: إنا لله، واغفلتاه عن نفسي أيام الحياة، واأسفاً على تفريطي في طاعة الله، واأسفاً على تضييعي عمري في دار الدنيا! ثم بكى واستقبل القبلة فقال: اللهم إني أستقبلك في يومي هذا بتوبة لا يخالطها رياء لغيرك، اللهم فاقبلني على ماكان فيَّ، واعف عما تقدَّم من فعلي، وأقلني عثرتي. ثم استقام حتى مات.
وختاماً نسأل المولى سبحانه، أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور أبصارنا، إنه سبحانه سميع قريب. وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين.
المجلس الاوروبي للقرأن الكريم