يحتوي كتاب الله الكريم على العديد من التوجيهات التربوية، التي تهدف إلى بناء الفرد والمجتمع على مبادئ وقيم الوحي النبيلة، هذه التوجيهات ليست نصوصاً مجرد ة، بل هي قواعد لبناء الشخصية الإنسانية الحضارية السوّية، تشمل كافة مجالات الحياة؛ من الناحية الفردية عبر البناء الروحي والخلقي والسلوكي، والاجتماعية، ومن خلال إرساء وتنظيم العلاقة بين أفراد المجتمع، بالشكل الذي يحقق أعلى درجات الفاعلية الجماعية، وكذلك من خلال تنظيم العلاقة بين الجماعات الإنسانية التي تختلف وتتباين في أعراقها والسنتها وانتمائاتها الجغرافية، وترسي قواعد تربوية إذا روعيت يتحقق السلام العالمي الذي لطالما حلمت به البشرية على مدار تاريخها
القيمة العليا
جعل القران الكريم التوحيد مرجعية عليا لكل القيم التربوية، التي يتربى عليها الفرد والمجتمع والإنسانية، فحين تفتح الكتاب المجيد ستجد أول توجيه بهذا الصدد في سورة الفاتحة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينَ} فيعلمنا سبحانه بذلك أن أساس النجاح في الحياة هو الإيمان بالله واعتقاد الوحدانية، ويرسخ قيمة تربوية سامية في النفوس بالاعتماد على الله في جميع الأمور والتوجه إليه في اليسر والعسر، واعتماد منهجية الوحي مرجعاً هادياً للفلاح والنجاح والرقي والتقدم والسلام
الله تعالى يرعى خلقه بالتربية
الله سبحانه هو المربي الأول للعالمين، وهذا تجلي لاسمه الأجل (الرب) الذي ورد في الغالب مقرونا بالإله في آيات الذكر الحكيم، وهو يعني العناية وتدبير شؤون الخلق،
كما ورد في سورة الفاتحة {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
ونجد تجليات اسم الرب الراعي لخلقة المدبر لشؤونهم على وجه الشمول والتمام في مواضع عدة من القران مثل قوله تعالى في سورة الانعام: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ}، وفي الأعراف {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}
وتربية الله لعباده تأتي على وجهين اثنين
الوجه الأول- التربية العامة
مثل الايجاد قال تعالى في سورة العلق { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ}
وكذا التكفل بأرزاقهم، قال جل ذكره في سورة الاسراء { إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ}
والهداية والرشاد تأتي تالياً في رعاية الرب لعباده؛ بعد الايجاد والإمداد، كما ورد في سورة الأعلى { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ . وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ}
الوجه الثاني – التربية الخاصة
فحين يستقيم الانسان على منهج الله، تأخذه يد العناية الإلهية من دائرة التربية العامة لكل المخلوقات، إلى دائرة التربية الخاصة للاصفياء والاولياء، فيمنحهم التوفيق والتسديد، ويرعاهم بتنمية الايمان وزيادته وإثماره في قلوبهم، ثم يدفع عنهم كل العوائق التي تحول دون قربهم منه وتنعمهم بتجليات أنواره قال جل جلاله في سورة الشورى {اللَّه يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ}، ثم يرتقي بهم بعد ذلك ليجعلهم في دائرة حمايته الخاصة وهو ما اشارت إليه بوضوح وصراحة سورة الحج {إِن ٱللَّه يُدَٰفِعُ عَنِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِب كُلَّ خَوَّان كفُور}
رعاية الرسل بالتربية
الأنبياء والرسل هم أصفياء الله من خلقه، اختارهم ليكونوا مبلغين عن الله، لذلك حدثنا القرآن الكريم عن رعاية الله تعالى لهم بالتربية رعاية خاصة، إذ يقع على عاتقهم حمل الأمانة {إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا}، ولعل اثقل ما فيه هذا القول هو تولي تربية الناس وارشادهم لطريق الحق
ومن أمثلة ذلك ما اشارت إليه جملة من الآيات الجليلة في الحديث عن سيدنا موسى عليه السلام، ففي سورة طه ثلاث آيات تشير لهذا المعني هي: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىٰ} و {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} و {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي}
وكذلك رعاية الباري عزوجل لنبيه صلى الله عليه وسلم بالتربية، كما ورد في سورتي الضحى والانشراح
وقد احسن الله تعالى تربية أنبيائه ورسله حتى كانوا قمما في إيمانهم وسلوكهم وخلقهم، ثم انتدبهم بعد ذلك لتربية العباد لما حصل لهم من كمالات رعايته التربوية، يؤكد الله تعالى على ذلك في سورة النحل
قال تعالى في التوية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين} وقل جل ذكره في الاسراء {وقل لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}
التواضع.
وهو ما ربتنا عليه سورة لقمان: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين}
احسان الظن بالاخر ين وعدم التجسس عليهم.
هو ما أكدته سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْم}. {ولا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا}
الخلاصة
الشرائع السماوية عامة جاءت لتحقيق مصالح العباد، ولتحسين حياة الناس على الأرض، والسمو بها والارتقاء الى معالى الكمال والجمال، وجاء القرآن باسمى قيم ومعاني التربية كونه الكتاب الخاتم والرسالة الأبدية المحفوظة من رب العالمين، ولو افترضنا جدلاً أن فرداً من الناس، أو جماعة بشرية ما، أرادت ان تخط لنفسها منهاجاً تربوياً يصلح لها جماعتها وأفرادها، فإنها ستجد في القرآن مرجعية عظيمة قادرة على تحقيق الصلاح والإصلاح، او بناء ما يصطلح على تسميته في الخطاب السياسي المعاصر بـ(المواطن الصالح)
أ.محمد صادق أمين عن جمعية الحكمة للعلم والصداقة والتعاون في إسطنبول